يوميات جاموسه ( مقال للكاتب جمال فهمى )

من طرف **نشات الريس** السبت مارس 10, 2012 9:14 am

جمال فهمي
_________________

كالعادة، صحوت اليوم على نهيق صديقى الحمار.. كم هو طيب ولطيف هذا الكائن، لقد عاد أمس مع صاحبنا من الغيط فى المغربية مكدودا مهدودا لكنه لم ينس بمجرد دخوله الزريبة أن يسألنى عن حالى: يارب تكونى أحسن دلوقتى يا نوسة؟ (هكذا تعود يدلعنى عندما يكون رائقا راضيا بينما فى الهزار الثقيل يتعمد ينادينى باسمى الرسمى ويقولى يا جاموسة يا تخينة وأنا أقوله يا حمار يا أهبل).

كنت ما زلت تعبانة ومدروخة ولا أستطيع حمل رأسى ومع ذلك قلت له: الحمد لله يا «حوحو» كويسة قوى.. بدا قلقا وغير مصدق لكنه آثر أن يرفع معنوياتى فرد بحنان: أيوه أنا شايفك فعلا فلة وجميلة أهه، على فكرة مافيش مانع تدلعى شوية علينا بس ماتسوقيش فيها سايق عليكى النبى.. أكلتى ولّا لسه؟ سألنى «حوحو» بحنان وهو يهش بساقه المعصعصة البطتين والدجاجات الأربع المتبقيات فى زريبتنا المتواضعة من أيام مذبحة «إنفلونزا الطيور»، غير أننى جاوبته كاذبة ومتصنعة الهزار: آه طبعا يا ابنى أكلت من بدرى، أمال يعنى ح انتظر سيادتك على لحم بطنى لغاية دلوقتى، هوه أنا زيك يا أستاذ قاعد طول النهار متنبل فى الغيط تنش وتحش عمال على بطال، ما انت عارف إن أنا ست باتحلب كل يوم ولازم آكل كويس وإلا ضرعى يجف وأصحابنا الغلابة اللى أنا مصدرهم الوحيد للكالسيوم والبروتين يموتوا من الجوع، وولادهم المقاريض يجيلهم أنيميا ولين عظام وهما كما تلاحظ جنابك مش ناقصين.

فى الأوقات العادية كان «حوحو» يرد على معايرتى هذه له وعلى حذلقاتى العلمية والطبية تلك بسخريات وتريقات قاسية، يبدأها قائلا: طيب يا ست الدكتورة الجاموسة هانم، عرفنا يا أختى إنك متعلمة ومتثقفة ومعاكى شهادة الزمالة من كلية الجراحين الملكية فى إنجلترا (أحيانا يقول مختصرها بالإنجليزية، أى الـ«FRCS»).. غير أنه هذه المرة لم يفعل ولاذ بصمت ثقيل وحزين وشعرت بنظراته المشفقة وهى تمسح جسدى الذى كساه الهزال وتتركز بالذات على ضروعى الناضبة المترهلة.

ظل «حوحو» طوال ساعات الليلة الماضية مشغولا ومهموما بحالى وراح يبالغ ويفرط فى الاهتمام بى، ولست أعرف كم مرة اقترب منى بأذنيه الطويلتين المنتصبتين اللتين لطالما داعبته بالسخرية منهما، وعندما انهارت مقاومتى وخارت قواى تماما، ولم أعد قادرة على البقاء منتصبة على أربع وسقطت مثقلة بالحمى فوق أرض الزريبة الغاصة بالروث وشتى صنوف القذارة، قفز صديقى نحوى بسرعة البرق وأخذ يهش بعصبية شديدة رفاقنا الطيور الذين هرعوا وتحلقوا حولى، فيما كان يطلق نهيقا ملتاعا كالرعد غطى على جلبة ومكاكية الطيور الحزينة، وفى لمح البصر كان صاحبنا وامرأته ومقاريضهما الصغار يلبون جميعا نداء «حوحو» المستغيث وينحشرون بين جدران مأوانا البائس، وبينما أنا بين اليقظة والخدر سمعت سيدتى المسكينة وهى تنتحب نحيبا مكتوما أما سيدى الغلبان فبدا صوت زفراته المتقطعة وحشرجات صدره المنهك يشيان بحال يصعب على الكافر.. وكان آخر ما تناهى إلى سمعى قبل أن أذهب فى سبات عميق (لست أعرف إن كان نوما أو إغماء) هو إلحاح وزَنّ أحد صغار المقاريض: أمه، أمه.. هيه جاموستنا ماتت خلاص؟ كما لا تحتفظ ذاكرتى من صور هذه اللحظة الرهيبة سوى بمنظر غائم لدموع لمحتها تسح وتنساب من عيون «أم المقروض»، فيما كانت دموع باقى أبطال المشهد حبيسة المآقى وتغالب الانهمار.

أسجل هذا كله الآن مضطرة وأنا متحاملة على جسدى المتهالك المحموم، لأنى أشعر بدنو الأجل وقرب فوزى بالراحة الأبدية.. لقد ذهب صديقى «حوحو» قبل قليل فى معيَّة، أو بالأحرى، حاملا فوق ظهره صاحبى المسكين يبحثان عن طبيب أو أى شىء ينقذنى لكنى أشعر بقنوط ويأس عظيمين وقد سلمت أمرى لله على كل حال، إذ من نكد الدنيا الفانية تلك أن البشر فى هذا البلد صاروا يموتون عبثا أو لأهون سبب، فكيف بأمثالى من الدواب البائسة؟!

(طبق أصل الورقة الأخيرة فى يوميات الجاموسة الشهيدة)

من طرف **نشات الريس** الإثنين مايو 07, 2012 9:22 am

يوميات جاموسه ( مقال للكاتب جمال فهمى )

يوميات جاموسه ( مقال للكاتب جمال فهمى )

رد: يوميات جاموسه ( مقال للكاتب جمال فهمى )