سيرة صلاح الدين الأيوبي

من طرف **نشات الريس** الأحد نوفمبر 07, 2010 10:15 am

ونحن نبحث عن صلاح الدين الذي نحبّه , وتطرب ألسنتنا بذكره ونبعث الأمل في نفوسنا بظهوره نستذكر قول أبي فراس الحمداني :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
كان رحمه الله مجاهدا عظيم الصفات , تقيا , ورعا , صابرا, شجاعا, عادلا, كريما سخيا, حليما, يعفو عند المقدرة , وقد دوّن بهاء الدين بن شداد في هذا الكتاب هذه الصفات مؤيدة بأدلة واقعية , وقصص نادرة تحكي هذه الشمائل والأخلاق , وسأكتفي في هذا العرض بالإشارة إلى جملة منها أرادها فريدة فيه , ومن ذلك أنه مات رحمه الله, ولم يخلف ملكا ولادارولاعقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الملاك.
كان رحمه الله محبا لسماع القرآن والحديث النبوي , لا بل إنه كان يذهب إلى العلماء الذين يرفضون طرق أبواب السلاطين ويتردد عليهم ومن هؤلاء الحافظ الأصفهاني وكان شديد المواظبة على صلاة الجماعة , وعند مرضه يستدعي إماما ليصلي به وكان رحمه الله حسن الظن بالله كثير الاعتماد عليه ولا سيما في أوقات الشّدة والمحن . أما الجهاد في سبيل الله فقد كان شغله الشاغل وقد استولى حبّ الجهاد على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيما بحيث ما كان له حديث إلا فيه , ولا نظر إلا في آلته ولا اهتمام إلا برجاله , ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثّ عليه , وقد هجر في محبّة الجهاد أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده , وقنع من الدنيا بالسكون في ظلّ خيمة تهبّ بها الريح ميمنة وميسرة...
وكان رحمه الله يقصد بوقعاته الجمع ولاسيما أوقات صلاة الجمعة تبركا بدعاء الخطباء على المنابر فربما كانت أقرب إلى الإجابة , وكان رحمه الله ينفق على الجهاد حتى قيل لو حلف حالف أنّه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارا واحدا ولا درهما إلا في الجهاد أو في الإرفاد لصدق وبرّ في يمينه " وقد كان رحمه الله شجاعا عظيم الهمّة , ولم يكن يستكثر العدو ولا يستعظم أمره قطّ , ومع هذا كان حريصا على ترتيب جنده وجيشه , يرتّب كل قسم من غير حدة ولا غضب يعتريه , وكان رحمه الله يمرض وتعتريه أحوال صعبة في أرض الجهاد وهو صابر مرابط .
كان رحمه الله كريما يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السّعة , وكان عمّاله على الخزائن يخفون عنه شيئا من المال حذرا أن يفاجئهم لعلمهم أنّه متى علم به أخرجه .ومن مكارم خلقه أنّه كان إذا صافحه الرّجل لم يترك يده حتى يكون الرّجل هو التارك الذي يبدأ بذلك , وكان كريما مع المسلم والكافر فقد قال

ابن شداد: ( ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالنّاصرة , فاحترمه وأكرمه وأكل معه الطّعام ومع ذلك عرض عليه الإسلام فذكر له طرفا من محاسنه وحثّه عليه , وله رحمه الله قصص في الكرم وعفّة النّفس وحسن الخلق كثيرة)
ويحفل الكتاب بقصص البطولة والشّجاعة , والتضحية بالنّفس والرّوح من أجل الدّين والملّة , وقد أورد الكاتب عددا من هذه القصص دارت أحداثها في عكا وما حولها حين حاصرها الصّليبيون سنة 586 ه ومن هذه القصص قصّة عيسى العوّام
وهي قصّة معروفة تدور حول عوام مسلم اسمه عيسى كان يغوص تحت سفن الصّليبيين ليوصل المال والرّسائل إلى المسلمين المحاصرين في عكا .وكان يطلق طائرا زاجلا بعد وصوله عكا إشارة بأنّه وصل وفي إحدى المرات لم يصل الطّائر إلى المسلمين فعرفوا أنّه هلك , ولمّا كان بعد أيّام وبينما النّاس على طرف البحر إذا هو قذف شيئا غريقا فتفقدوه فوجدوه عيسى وعلى وسطه الذّهب , وشمع الكتب . ومن العبارات التي امتدح بها ابن شداد عيسى العوام هذه العبارة:
" مما روي من أدّى الأمانة في حال حياته وقد ردّها في مماته إلاّ هذا الرجل "
طال حصار الصليبيين لعكا , فشرع صلاح الدّين في مفاوضة الصليبيين لإخراج المسلمين المحاصرين فيها سالمين , وقد كانت شروط الصليبيين صعبة , ومطالبهم من صلاح الدّين كثيرة ولمّا شعر أهل عكا بهذه الشّروط أرسلوا رسالة إلى صلاح الدّين قالوا فيها:" إنّنا قد تبايعنا على الموت , ولا نزال نقاتل حتّى نقتل ولا نسلم هذا البلد ونحن أحياء , فانظروا أنتم كيف تعملون في شغل العدوّ عنّا ودفعه عن قتالنا
, فهذه عزائمنا , وإيّاكم أن تخضعوا لهذا العدوّ وتلينوا لهم"
انظر إلى هذه الرّوح وتأمّل هذه العزيمة . ومثال ما سبق أنّ المسلمين قد جهزوا " بطسة" أي سفينة وحملوها بالمؤن والآلات والأسلحة والرجال والأبطال والمقاتلة , وسيروها من بيروت , وفي الطّريق اعترضتها سفن الصليبيين ودار قتال عظيم بين الطرفين غير أن الغلبة بدت لصالح الصليبيين , فقال قائد السّفينة لمّا رأى أمارات الغلبة عليهم وأنّهم لابدّ وأن يقتلوا :" والله لا نقتل إلاّ عن عزم , ولا نسلم إليهم من هذه البطسة شيئا , فوقعوا بالبطسة من جوانبها بالمعاول فهدموها ولم يزالوا كذلك حتّى فتحوها عن جانب أبوابا فامتلأت ماء فغرق جميع من فيها ولم يظفر العدوّ منها بشيء " ولمّا سمع المسلمون بالخبر حزنوا حزنا شديدا , والسلطان يتلقّى ذلك بيد الاحتساب في سبيل الله والصّبر على بلائه والله لا يضيع أجر المحسنين."
هؤلاء هم جنود صلاح الدّين , طوبى لهم!
ومن القصص ما يذكرنا بغدر المستعمر ووحشيته , فمن غدر الغزاة الصليبيين ما فعلوه بأهل عكا المحاصرين من القتل وقصّة ذلك أن المسلمين وصلاح الدّين قد تأخّروا عن تلبية شروط الصليبيين في دفع المال , وإحضار صليب الصلبوت كما يسمونه فما كان منهم إلاّ أن أحضروا أسرى المدينة وعددهم زهاء ثلاثة آلاف أسير
, وحملوا عليهم حملة واحدة طعنا بالسّيف , والمسلمون يشاهدون هذه الفعلة العظيمة الغادرة غير أنّهم لا يستطيعون تقديم العون والنّجدة .
وقد قيل الحرب خدعة , وقد أورد الكاتب في هذه السيرة بعضا من الحيل التي لجأ إليها الطرفان المتحاربان ومن ذلك قصّة البطسة الإسلاميّة التي وصلت عكا مستخدمة الخداع والحيل , وملخصها أن المسلمين قد جهزوا بطسة في بيروت وملؤوها بالطّعام والقمح والبصل والجبن والغنم ثمّ حلقوا لحاهم ولبسوا لباس الإفرنج ووضعوا الخنازير على ظهر السفينة , وعلّقوا الصلبان , ولمّا شاهد الصليبيون البطسة ورأوا ما عليها ظنّوها منهم , فاشتدت البطسة في السير واستقامت لها الرّيح حتّى وصلت عكا , وقد علّق ابن شدّاد على هذه الحادثة بقوله:
" وكان فرحا عظيما فإنّ الحاجة كانت أخذت من أهل البلد ".
ومن حيل الإفرنج في حربهم ضدّ المسلمين ما فعله ملك صور الصّليبي وذلك أنّه صوّر القدس في ورقة , وصوّر كنيسة القيامة التي يحجّون إليها ويعظّمون شأنها وقبّة قبر المسيح الذي دفن فيه بعد صلبه بزعمهم , وصوّر على القبر فرسا عليه فارس مسلم راكب عليه وقد وطىء قبر المسيح وبال الفرس على القبر , وأرسل هذه الصّورة إلى نصارى أوربا وراء البحر وهناك عرضوها في الأسواق , ومجامع القساوسة يحملونها ورؤوسهم مكشوفة , وينادون بالويل والثبور وقد علّق ابن شدّاد على هذه التّادرة بقوله:" وللصور عمل في قلوبهم فإنّها أصل دينهم فهاج بذلك خلق لا يحصي عددهم إلاّ الله"
كان صلاح الدّين شجاعا مقداما في الحرب , غير أنّه كان رحيما , كبير القلب حتّى مع أعدائه ومن ذلك أنّ لصوص المسلمين سرقوا طفلا رضيعا من الصليبيين , ولمّا فقدته أمّه باتت مستيقنة بالويل والثبور طول الليل حتّى وصل خبرها إلى ملوكهم فقالوا لها : إنّه رحيم القلب وقد أذنا لك بالخروج فاخرجي واطلبيه منه فخرجت حتّى وصلت السّلطان وذكرت له قصّتها فرقّ لها , ودمعت عينه , وأمر بإحضار الرّضيع وقد بيع في السّوق فارتدّه وأمر بدفع ثمنه إلى المشتري , ولم يزل واقفا حتّى أحضر الطّفل وسلّم إليها , فأخذته وبكت بكاء شديدا وضمّته إلى صدرها والنّاس ينظرون إليها ويبكون .
وقد علّق ابن شدّاد على هذه النّادرة بقوله:" فانظر إلى هذه الرّحمة الشّاملة لجنس البشر , اللهم إنّك خلقته رحيما فارحمه رحمة واسعة من عندك "
وحتّى لا تخلو هذه السيرة العظيمة من الأمل والتّفاؤل فإنّني أقدّم بعض قصص النّصر التي فرح بها صلاح الدّين وجنده " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله "
ومن ذلك أسر ملك الكرك الصليبي أرناط , وكان كثير الغدر بالمسلمين , ويقطع الطريق عليهم , وقد غدر بحجاج المسلمين رغم المعاهدة التي كانت تربطه بصلاح الدّين فعندما نذر صلاح الدّين ليقتلنّه بيده إن وقع أسيرا , وقد وفى بنذره حين أسره
في حطّين . وقد كانت كسرتهم في حطّين عظيمة ونالهم من الذّل شيء كبير فقد كان الواحد العظيم يخلد إلى الأسير خوفا على نفسه وروى ابن شدّاد أنّ مسلما كان بحوزته نيف وثلاثون أسيرا في طنب خيمة أخذهم وحده لخذلان وقع عليهم.
وحين تسلّم صلاح الدّين القدس في السابع والعشرين من سنة 583 ه ارتفعت أصوات المسلمين بالدّعاء والتهليل والنّكبير , وصليت فيه يوم الجمعة يوم فتحه وكان نصرا عزيزا.
ومن النّوادر ذكر حريق الدّبابة , وذلك أن العدوّ كان قد صنع دبابة عظيمة وأقامها حول سور عكا وكانت تعلوه , وكان يركب فيها مقاتلهم , وخاف المسلمون أهل عكا منها خوفا عظيما وحدّثتهم نفوسهم بطلب الأمان من العدوّ لكنّهم قبل ذلك ضربوها بالنّفط فيسّر الله حرقها فاشتدّت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير ولقوا جبرا من ذلك الوهن , ونعمة بعد يأس وكان ذلك يوم غرق البطسة فوقع الخبر من المسلمين موقعا عظيما وكان مسليا لحزنهم.
كانت سيرة صلاح الدّين ومازالت غنيّة بأحداثها الجسام , وفتوحها العظام , إنّها سيرة مجاهد عظيم قدّم كل ما يملك في سبيل الله ومن أجل إعزاز دينه وحفظ مقدساته واستعادة أولى القبلتين وثالث الحرمين .
كان – رحمه الله – عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال , وكان كالوالدة الثكلى يجول بفرسه من طلب إلى طلب , ويحثّ النّاس على الجهاد , ويطوف بين الأطلاب وينادي:" يا للإسلام " وعيناه تذرفان الدّموع.
فهل للأمّة أن تحمل همّ تحرير بيت المقدس والأقصى كما حمل همّه صلاح الدّين؟!.